كيف تؤلف كتابا في شهر؟؟

سؤال إشكالي! قرأته يوما صدفة ولا أخفي كوني ضحكت منه كثيرا، وشعرت برغبة في مواجهة صاحبه باستنكار واستهزاء؛ ليس فقط لكون الأمر غريبا خصوصا على من لم يخض تجربة الكتابة أصلا، لكن لأنه يجعل من فعل الكتابة المعقد عملا فوضاويا، أشبه بأن تقدم لطفل عجينا وتطلب منه تشكيل أي شيء منه يمكن أكله بعد طهيه؛ حتى راودني السؤال مطروحا هكذا: كيف تمشي على الماء لتصل اليابسة؟

 

لكن ربما الشخص الذي ادعى هذه القدرة لديه خلفية معينة، حملته على الاستهانة بفعل الكتابة، وفعلا وجدت من يتحدث عن مفهومَيْ الإلصاق والتمثيل، الإلصاق بمعنى أن تحصل على المعلومات حول موضوع ما إن كان سرديا مرتبطا بعلوم أو معارف، مع استبيان الاقتباسات والمصادر المدرجة منه، وهذا أغلب ما يلجأ إليه من يكتب في المقالة الأكاديمية والبحثية والنقدية والفكرية... مع لمسة من الخصوصية في معالجة هذا الموضوع أو ذاك.  والتمثيل والذي يناسب أكثر الكتابة الأدبية وهو أن تتقمص كومة مشاعر من مجموع ما ظهر لك التأليف حوله من خلال كم القراءات المتراكمة، وتلصق عليه تجربتك ومشاعرك بأسلوب مشابه أو هو نفسه مع ترك بصمة تبرئ ذمتك من النقل التام.

 

وحسبك أن فعل الكتابة أسمى من كل ذلك، أن تكون كاتبا يعني أنك حملت على عاتقك مبدأ تحرير أفكارك ومشاعرك ووضعها في يد عموم الناس، وهؤلاء فإنك تمدهم بمادة ستتناول تلك الأفكار والمشاعر بالنقد والتفنيد أو بالإحاطة والتدقيق، وقد تصل عند آخرين مرتبة الدهشة والإعجاب كما قد تصير قدوة واحتذاء. وهذه الفئة هي ما نسميهم بالقرّاء، إذ تختلف هويتهم هذه باختلاف درجة قراءتهم، انطلاقا من المطالع وصولا للناقد.

 

وقد تكون تجربة الكتابة مقتصرة على فترة معينة من حياتك، كما قد لا تتجاوز رهان التجربة وفكرة التحدي، وقد تنبع من ضرورة، كالتعبير عن مشاعر جيّاشة أو نتاج تأثر مفرط أو صدمة عاطفية أو فكرية أو تجربة اجتماعية أو إنسانية مميزة؛ وقد تستمر معك الحالة طويلا فلا ينضب لك حينها معين قلم، ولا يكفيك كل العمر لتنهي شغفك ذاك، وكما قد تنتج آلاف السطور ولا يكون لها وقع، فقد تكتب في حياتك سطرا ويخلد اسمك في كل ساح دليلا على بلاغة شعورك بغض النظر عن اللغة المستعملة ومن تكون كإنسان.

وأنت تخوض تجربة الكتابة، فأنت تقوم بشيء خارق، لأنك تصبح شفافا لدرجة أنك قد تفصل روحك عن جسدك وتسكنها السطور، وتعري عن أفكارك وتهدم سور الخصوصية؛ أنت في هذه المرحلة خطوت أولى الخطوات في درج الكتابة، وهي الانسلاخ، حيث يصير باطنك هو ظاهرك على صفحات كتابتك.

والآن بات لديك الحديد، وتمكنت من إذابته، والآن عليك اختيار القالب الذي ستصبه فيه، وتشكل به تلك الأفكار والمشاعر. الاختيار أولا يحتاج منك عنصرين أساسيين: الذكاء العاطفي والمعرفة اللغوية، إن كنت اخترت أن تكون أديبا، والذكاء المعرفي والدقة اللغوية إن كنت أكاديميا. أما أن تكون لديك كلها فأنت كاتب ذكي موهوب بكل بساطة!

 

أما من جهة أخرى فالاختيار يحتاج أن تكون على دراية بمبادئ كل عمل كتابي وكيفية التعامل معه؛ البعض من الكتاب الجدد يجد من فكرتنا الأولى حول الإلصاق والتمثيل مفيدا بالبداية حتى يصير متمكنا من مناهج تلك الكتابة، ونجد هذه الفئة هي التي تصرح بتأثرها الشديد بالقراءة، وإيمانها بأن القراءة المكثفة هي التي تولّد المؤلف القادم، أو تنهج فكرة إذا كان هناك كتاب تريد قراءته ولم يُكتب بعد، فيجب عليك كتابته. كثيرون ينجحون بالمثابرة في هذا النهج ومع اكتساب الخبرة تصير إمكانية الإبداع متاحة في فترة ما أو لظرف ما؛ أما البعض الآخر وهم القلة فهم أصحاب الموهبة الفطرية، وهؤلاء يتمتعون بصفات تؤهلهم منذ بداية الخطوة في درج الكتابة للوصول للقمة، ومكتسبهم هذا لا يفصلهم عن ضرورة العمل الجاد في معرفة مناهج الكتابة التي يخوضون فيها واستثمار موهبتهم في صناعة الكتاب باخترافية، لكنه بالمقابل يضمن عدم تعترهم.

 

هنا وصلنا للخطوة التالية، صناعة الكتاب، بعد أن اخترنا قوالب الكتابة وحددنا مهارات الحداد، جاء موعد الصقل وترتيب اللمسات الأخيرة على المنتوج، مهما كان منتوجك رصينا، وذا أهمية كبيرة، ومثيرا للاهتمام، ومطلوبا من الجميع، وغير ذلك مما يجعل من عملك قابلا للعرض، فالتميز مهم أيضا للجذب والتأثير، ولن أحيد عن فكرة التكوين الذاتي للكاتب والتي يتعالى عنها معظم الكتاب البوارق والخوارق في اعتقادهم. إن الثوب مهما بلغ من جمال وقيمة، وحدها لمسة الخياط ما يفصله عن البقاء في المخازن. وكذلك الكاتب، إن فقد سيطرته على مقص اللغة أو افتقدها، فقد يخرب كل شيء. وإن لم يعط تفصيلته حقها في العناية بالتفاصيل فقد لا ينزاح عن اللصق والتمثيل؛ أتحدث عن الكتابة وكأنها صنعة؟ أجل، بالنهاية فالكتابة صنعة لبوس، بقدر ما تتطلب مادة خام بقدر ما تحتاج موهوبا يشكلها، وبقدر ما تتطلب معرفة أساسية، بقدر ما تحتاج إبداعا.

 

أنهيت؟ مرحبا بك في مشوار الألف ميل، ولن أطيل مرافقتك فيه لأنه يضجر ويقض المضاجع، ولعله أكبر العثرات التي قد تعيق تقدمك في كثير من الأحيان، إنه كابوس النشر! أحسست أنك فعلت ما عليك، ممتاز، لكن هل فعلت ما تريد؟ هنا يتوقف الموضوع عند غرضك من الكتابة، إن كان ماديا أو معنويا، إن كان اشتراكيا محاطا بورود التوليب الملونة لشخصيتك الشفافة، أم رأسماليا للمتاجرة في عدد الحروف ونسب الأرباح... ربما هما معا؟ لا بأس، بالتوفيق على كل حال.

ونعود لسؤالنا، كيف تؤلف كتابا في شهر؟ لا زلت عاجزة عن استيعاب ما كان يفكر فيه صاحبه حين طرحه، لكن ما دام خاض في بركة الكيف، فقد أتجاوزه بسؤال أكثر سخافة، وربما أعمق تفكيرا: كيف تكتب كتاب في اليوم؟! أو سؤالا ملهما: كيف تكتب أفضل كتاب في حياتك في شهر قد لا تكتب مثيلا له أبدا؟ (وأشير هنا إلى أن العامل الزمني قد يتوالى وقد يتقطع، إن فككنا أيام الشهر لعدد الساعات التي تمارس فيها فعل الكتابة في اليوم، وقد يصبح الشهر دهرا من الزمن، لكنك بشكل من الأشكال ستحس أن ما مر من زمن هو شهر قابل للتمطيط).

 

ثم أجيب ببساطة إن كنت فهمت وتوصلت لإدراك ما سلكت في مقالتي من بدايتها، بتخصيص ما يلي:

  1.  أن يكون لديك شيء ملهم تكتب حوله.
  2.  أن تصل للدرجة الأولى من فعل الكتابة وهي الرغبة فيها.
  3.  أن تتوفر لديك المادة الخام وهي المعرفة بما ستكتب ونهجيته والتمكن اللغوي.
  4.  أن تكون صاحب إبداع فطري وموهبة.
  5.  أن تكون دائم الاشتغال على نفسك لصقل موهبتك.
  6.  السطر الأول ضروري، والبقية تأتي تباعا.
  7.  قد يبدو الكتاب منتهيا في شهر لكنه احتاج لتراكمات سنين.
  8.  الإبداع عنقاء، يخرج بعد ان احترق فيك شيء، فتصير وهجا.
  9.  الوصل بين الإبداع والتمكن، كالوصل بين الوردة وساقها، قد تكون الوردة مدهشة، لكن دون ساق سرعان ما تتساقط بتلاتها من أول هبة ريح.
  10.  اكتب، أنت خارق، في جعبتك إكسير خلود.